(الحج) في القرآن الكريم.. نظرة عامة
سمير علي آل ربح
تناول القرآن موضوعات متنوعة بدءًا من خلق السماوات والأرض، وربط ذلك بتوحيده سبحانه، وصفاته وأسمائه الحسنى، فهو العليم القدير المحيي المميت الخالق الرازق الباسط الحَكم العدل السميع البصير...، وصولًا إلى البعث الجزاء والجنة والنار، وما بينهما من معارف كثيرة مبثوثة في ثنايا الكتاب المقدَّس. وتزخر آيات الذكر الحكيم ببيان الأحكام الشرعية في مختلف مجالات الحياة، ومنها العبادات: الصلاة والصيام والزكاة والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها (الحج) الذي ارتأينا أن نلقي عليه نظرة عامة؛ ما الآيات التي تناولته؟ وما الزوايا التي عالجتها؟ وما الأحكام التي بيَّنتها؟ والمعارف التي شرحتها؟ نحاول الإجابة عنها بما تيسَّر لنا في هذه المساحة، وحجَّاج بيت الله الحرام يحزمون حقائبهم ويشحذون هِمَمَهم آمَّين البيت العتيق طالبين رحمة الله وغفرانه ورضوانه؛ وتسهيلًا للقارئ الكريم، سوف أعرض هذه المطالب في نقاط:
أولًا: لفظ (الحج) و(العمرة).
أما (الحج) فجاء في كتاب الله 7 مرات، معرفًا بـ (ال) تارة ومجردًا منها أخرى؛ فمن الأول قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) {البقرة: 189}، ومن الثاني: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) {البقرة: 158}، ويلاحظ أن (حج) جاء مضافًا إلى (البيت؛ فأكسبه تعريفًا، وعليه فإن لفظ الحج لم يرد نكرة إطلاقًا في كتاب الله. ومعنى الحج لغةً هو القصد. حج البيت: قصده. وشرعًا هو قصد البيت لأداء عبادات مخصوصة تُسمى المناسك، من طواف وسعي ووقوف بعرفة ومزدلفة ورمي وذبح وحلق. وهذه في مجموعها تُسمَّى (مناسك الحج): (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) {البقرة: 200}.
وجاء لفظ العمرة مرة واحدة مقترنًا بالحج: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه (، وبلفظ (اعتمر) مرة واحدة: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) {البقرة: 158}، أي أدَّى العمرة. (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) تمام الحج والعمرة أداء أعمالهما تامَّين كاملين من دون أن يترك الحاج والمعتمر منهما شيئًا، بل هو (الترك) مبطل لهما في بعض الصور، فكأنه لم يحج ولم يعتمر.
وأُمر إبراهيم الخليل بأن ينادي الناس ويدعوهم للحج: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) {الحج: 27}. (رِجَالًا): جمع راجل، وهو الماشي الذي لا مركوب له، يسعون على أقدامهم. (عَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ) من الضمر، وهو الهزال، قد جهده السير، فضمر من الجهد والجوع والتعب، وإنما خَصَّصَ هذين دلالة لتلبية الناس له، حتى الضعفاء منهم الذين لا مركوب لهم، أو هم فقراء حتى أن مركوبهم ضامر، ليس له ما ينفق عليه، ولا يريحه حتى يسمن. {يُنظر: تقريب القرآن إلى الأذهان، السيد محمد الشيرازي، 3/ 596}.
ومن الألفاظ المرتبطة بالحج، الطواف، ومنه (يتطوف). والملاحظ أن هذا الفعل جاء مشدَّدًا: يطَّوَّف، والأصل يَتَطَوَّف بهما أُدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجها منها (قرب مخرج التاء من الطاء)، وهو طرف اللسان مع أصول الثنايا العليا، وتُسمى الحروف النطعية (وهي التاء والطاء والدال). ولم يأتِ الفعل (يَطُوفُ) بل (يَتَطَوَّف)؛ مبالغة في الطواف، على نحو "زيادة المعنى تدل زيادة المعنى" كما قرروا في علم الصرف.. أما (الطائف) باسم الفاعل فجاء جمعًا مجرورًا بحرف الجر (اللام)، في سورة البقرة: 125: (وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، وفي سورة الحج: 26: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، وفي كلتا الآيتين أُمِرَ إبراهيم (وابنه إسماعيل) بأن يُطهِّرا البيت من الأقذار ليتمكن الطائفون وقاصدو البيت للعبادة من أجل إعانتهم عليها.
***********
ثانيًا: الأماكن المرتبطة بالحج.
أ. البيت الحرام: يأتي على رأس هذه الأماكن البيت الحرام، والمراد به خصوص الكعبة المشرفة. جاءت هذه المفردة معرفة بـ (ال): البيت في اثني عشر موضعًا، و(ال) هنا عهدية عهدًا ذهنيًا أو ذِكريًا حسب السياق الذي تأتي فيه، أي البيت المعهود المعروف، فإذا قيل: البيت، مجردًا انصرف إليه. قال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) {البقرة: 125}. وجاءت هذه المفردة مرة أخرى مجردة من (ال) في موضوع واحد: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا) {آل عمران: 96}، و(بَيتِ) مضاف إلى (أوَّل)، فاكتسب (أوَّل) بذلك تعريفًا.
ويضاف هذا البيت لله، فيقال: بيت الله، والإضافة هنا تشريفية، فالله تعالى ليس له بيت يسكن فيه، كيف وهو الذي "لا يُبْصَرُ بِعَينٍ، وَلَا يُحَدُّ بِأَين" {نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، 2/ 106}.
وُوصف هذا البيت بصفات، منها أنه (الْبَيْتَ الْحَرَامَ) {المائدة: 2}؛ فلا يُصاد عنده، ولا يُقطع ما حول من نبات أو شجر، بل أكثر من ذلك، بأن جعله آمنًا لكل من دخل فيه: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) {آل عمران: 97}.
ومنها أنه (البيت العتيق) في موردين في سورة الحج: 29، 33. (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ). والمراد من (العتيق) البيت القديم. {تقريب القرآن إلى الأذهان، السيد محمد الشيرازي، 3/ 598}، فهو قديم منذ أن رفع إبراهيمُ قواعده: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) {البقرة: 127}، بل في بعض الروايات أن أول من بنى البيت هو آدم (عليه السلام). {الوسائل، الحر العاملي، 13/ 208}. وروي عن أبان بن عثمان عمَّن أخبره، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: قلت: لِـمَ سمَّى الله البيت العتيق؟ قال: "هو بيتٌ حُرٌّ عَتيقٌ من الناس لم يملكه أحد". {الوسائل، الحر العاملي، 13/ 240}.
ومن الألفاظ الدالة على البيت، الكَعْبَة: بفتح ثم سكون. في موضعين كلاهما في سورة المائدة: 95، 97. (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ)، (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ). سُمِيت الكعبة بهذا الاسم لأن بناءَها مكعب الشكل، كما هو ظاهر.
ومن أحكام هذا البيت أن المسلم يَتوجه إليه في صلواته اليومية وغيرها، وحين الذبح، فلا تحل الذبيحة إلَّا إذا وُجِّهت إليه. ويجب احترامه حين قضاء الحاجة فلا يجوز استقباله، بل ولا استدباره.
ب. المسجد الحرام، وهو المسجد الذي يقع فيه البيت (الكعبة)، فهو أعم منها. ورد هذا المسجد موصوفًا بأنه الحرام، خمس عشرة مرة في كتاب الله، منها قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) {الإسراء: 1}، وهو القبلة لمن كان خارجه وبتعبير أوضح: الكعبة قبلة لمن كان في المسجد الحرام، والمسجد الحرام قبله لمن كان خارجه، ومكة المكرمة قبلة لمن كان خارجها. {يُنظر: جواهر الكلام، الشيخ النجفي، 7/ 323}. قال تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). {البقرة: 144}.
ج. مقام إبراهيم (عليه السلام). جاء هذا لفظ (مقام إبراهيم) مرتين في كتاب الله في سورتي البقرة: 125، وآل عمران: 97. وهو الموضع الذي كان يقف عليه إبراهيم الخليل (عليه السلام) حين بنى البيت. وقد أُمر الحاج والمعتمر بعد أداء الطواف، بل مطلق المصلي بأن يتخذ هذا المقام مصلى: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) {البقرة: 125}. عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: "لا ينبغي أن تصلي ركعتي طواف الفريضة إلا عند مقام إبراهيم (عليه السلام)". {الكافي، الشيخ الكليني، 4/ 424}.
د. الصفا والمروة، وهما جبلان قريبان من المسجد الحرام. قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ) {البقرة: 158}، والمراد من قوله "مِن شَعَائِرِ اللَّهِ" أي من الأمور المرتبطة بالله سبحانه، حيث جعلهما محلًا لعبادته بالسعي بينهما. {تقريب القرآن إلى الأذهان، السيد الشيرازي، 1/ 200}، فيجب على كل حاج ومعتمر أن يسعى بينهما.
د.المشاعر المقدَّسة: عرفات، المزدلفة، منى:
(عرفات) في موضع واحد: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) {البقرة: 198}، وعرفات هي أرض خارج مكة المكرمة على الجنوب الشرقي منها. يقف فيها الحُجَّاج يوم التاسع من شهر ذي الحجة مبتدئين بها أعمال الحج. عن معاوية بن عمار قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن عرفات لم سُميت عرفات؟ فقال: "إن جبرئيل (عليه السلام) خرج بإبراهيم (صلوات الله عليه) يوم عرفة، فلما زالت الشمسُ قال له جبرئيل: يا إبراهيم، اعترف بذنبك، واعرف مناسكك؛ فسُمِّيَتْ عرفات؛ لقول جبرئيل (عليه السلام) اعترف فاعترف"، {علل الشرائع، الشيخ الصدوق، 2/ 436}، وحرِّي بالحاج أن يقف في هذه الصحراء بقلب خاشع معترفًا بذنبه خائفًا راجيًا مستغفرًا تائبًا.
(المزدلفة)، لأن الحُجَّاج يزدلفون إليها من عرفات. عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في حديث إبراهيم (عليه السلام): "إن جبرئيل (عليه السلام) انتهى به إلى الموقف فأقام به حتى غربت الشمس ثم أفاض به، فقال: يا إبراهيم، ازدلف إلى المشعر الحرام فسميت مزدلفة"{علل الشرائع، الشيخ الصدوق، 2/ 436}، ويطلق عليها المشعر الحرام، وهو الذي جاء في القرآن الكريم: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)، في موضع واحد فقط. وقد يُطلق عليها (جَمْع) لاجتماع الناس فيها؛ إذ يبيت فيها الحُجَّاج ليلة العاشر من شهر ذي الحجة ويقفون بين الطلوعين: طلوع الفجر وطلوع الشمس.
(مِنى)، ولم أجد مجيء هذا اللفظ في القرآن الكريم، فيما وسعني من بحث، لكن جاءت الإشارة إليها حين أُمر الحُجَّاج بأن يفيضوا من المشعر الحرام إلى منى: (ثُمَّ أَفِيضُوا۟ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُوا۟ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ({البقرة: 199}؛ والأمر بالإفاضة هنا لأن "قريشًا لا يقفون بعرفات ولا يفيضون منها، ويقولون: نحن أهل حرم الله؛ فلا نخرج منه، فيقفون بالمشعر ويفيضون منه، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منه كسائر الناس". {يُنظر: تقريب القرآن إلى الأذهان، السيد محمد الشيرازي، 1/ 233}، وفي منى يرمي الحاج الجمرات ويذبح الهدي ويحلق (أو يقصِّر). كما أمر الحُجَّاج بأن يذكروا الله في منى أيام التشريق، في يومين أو ثلاثة: الحادي عشر والثاني عشر الثالث عشر، وإنما وُصفت بالتشريق لأن الشمس تُشرق على الأضاحي فتجففها، على طريقتهم في حفظ اللحوم بالتجفيف آنذاك، وهو ما يعرف بالقديد. قال تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) {البقرة: 203}.
***********
ثالثًا: أحكام شرعية مرتبطة بالحج.
منها ما تقدم من وجوب الطواف والسعي والوقوف بعرفات والمشعر الحرام، وأحكام منى، ومنها بعض محرمات الإحرام كالصيد (البري)، إذ يحرم على المحرم (بل المحل إذا كان في الحرم) صيد البر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) {المائدة: 95}. أما صيد البحر فلا باس به: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) {المائدة: 96}.
وأشارت الآية الكريمة إلى كفارة الصيد: (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) {المائدة: 95}، والتفصيل في كتب المناسك.
ومن محرمات الإحرام التي جاءت في القرآن الكريم، الرفث والفسوق والجدال: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)، فالرفث هو الجِماع، والفسوق هو السباب والمفاخرة (المحرمة) والكذب، ونُهي الحاج عن الجدال، سواء اشتمل على قول: لا والله، وبلى والله، أم لا، على الخلاف بين العلماء.
والذبح/ النحر من المناسك التي يجب أن يأتي بها الحاج: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) {الحج: 36}. (وَٱلْبُدْنَ) جمع بدنة وهي الإبل، وهي من شعائر الله التي تُنحر تعظيمًا لأمر الله سبحانه. يجب ذكر اسم الله عليها حين نحرها لتحل؛ فإنه من شروط حلية الذبيحة. تُنحر حال كونها (صَوَآفَّ) أي قائمات، قد صففن أيديهن وأرجلهن، جمع صافة. يُطعم منها (القَانِع) الذي يقتنع بما أعطيته، وهو يسألك الطعام (وَٱلْمُعْتَرّ) من اعترَّ، بمعنى اعترى، وهو الفقير الذي يعتري رحلك من غير أن يسأل. {يُنظر: تقريب القرآن إلى الأذهان، السيد محمد الشيرازي، 3/ 603، 604}. هذا الذبح وذاك النحر إنما هو لمنفعتنا نحن، بالأجر والثواب من جهة، وإطعام الجائع من جهة أخرى: (لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ) {الحج: 37}.
ومن الأحكام الشرعية التي ذُكرت في القرآن الكريم الحلقُ/ التقصير: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196}، فلا يَسبق الذبحُ الحلقَ، بل يجب الترتيبُ في الأعمال: الذبح ثم الحلق.
وقال سبحانه: (لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) {الفتح: 27}. قوله: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) حال. أي تدخلون المسجد الحرام حال كونكم محلقين أو مقصرين (الواو في "وَمُقَصِّرِينَ" بمعنى أو). واختلف العلماء في وجوب الحلق على الحاج الصرورة الذي يَحج لأول مرة، أم يكفيه التقصير، فمنهم من أوجب ومنهم من احتاط ومنهم من خَيَّرَ.
كانت هذه إطلالة عامة على فريضة الحج وفق القرآن الكريم، آمل أن أكون قد وُفقت لتناوله، وجاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) موسعًا، ذلك أن السنة المطهرة تأتي (فيما تأتي به) موضحةً لكتاب الله شارحًا لإجماله وباسطة لأحكامه، منها تفاصيل الإحرام: واجباته، ومحرماته، ومستحباته ومكروهاته. وهكذا شرائط الطواف والسعي وكيفيتهما، وأحكام المشاعر المقدسة: عرفات والمزدلفة ومنى، وعشرات بل مئات الأحكام الشرعية والمعارف الكثيرة، حتى أن بكير بن أعين روى عن أخيه زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
" جعلني الله فداك أسألك في الحج منذ أربعين عامًا فتفتيني، فقال: يا زرارةُ، بيتٌ يُحج قبل آدم (عليه السلام) بألفي عام تريد أن تَفنى مسائلُه في أربعين عامًا "{من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، 2/ 519}؛ وعليه فمن أراد تفاصيل أكثر فليراجع كتب الحديث والفقه، وبالخصوص مناسك الحج، والحمد لله رب العالمين.